الاثنين، 4 يوليو 2011

يوميات دافور : الدافور و المرضى !

الشهور القليلة التي قضيناها في المستشفى أثناء دراستنا لمادتي الجراحة و الباطنية .. كانت كافيةً لمرورنا بمواقفَ كثيرة مع المرضى ..
بعضها كان مضحكًا للغاية .. و بعضها كان مبكيًا للغاية ..
و بعضها كان محيرًا !

[ وش ذا النشبة ؟! ]

كل من يعرفني يعرف أن الحظ لا يعرفني !
و كالعادة بدأ الحظ لعبته معي من أول مريض .. 

أول مريض أقابله في حياتي كان يعاني من ( غرغرينا ) في قدمه اليمنى ..
و له قدمٌ يسرى مبتورة !
كان مريضًا بكل مايخطر لك على بال !
كان يعاني من كل الأمراض المزمنة و عمره لم يتجاوز الخامسة و الأربعين بعد !

كانت مهمتي أن أحصل منه على تاريخٍ مرضيٍ كامل لكل مشكلةٍ به .. لكنه كان مجموعة مشاكل !
عندما بدأنا بسؤاله عن معلوماته الشخصية .. أجابنا بصوتٍ متقطعٍ غير مفهوم ..
لندركَ بعد ذلك أنا و صديقي أن مريضنا الأول ( مشلول ) .. و يعاني من ثقلٍ في النطق !

كان يجيب على كل أسئلتنا بجوابٍ واحد : ( الحمدلله ) !
- عندك سكر ياعم ؟ 
- الحمدلله !
- عندك ضغط ؟
- الحمدلله !
- عندك مشاكل في التنفس ؟
- الحمدلله !

حينها نظرتُ إلى صديقي و قد كان مصدومًا مثلي ..
تبادلنا نظرةً سريعة .. و اتفقنا على ترك المريض .. و الهلع إلى مريضٍ آخر قبل وصول دكتورنا الذي سـ( يشرشحنا ) لو علم أننا لم نقابل مريضًا بعد !


[ مسوي فاهم ؟! ]

نضطر في الكثير من الأحيان إلى التخاطب مع بعضنا بالانجليزية عندما نسأل بعضنا بعضًا عن معلومةٍ نسيناها ..
أو للتعليق على شيءٍ لم نفهمه بالمريض ..
أحيانًا نتخاطب بالانجليزية لنخبر بعضنا أننا ضائعون أمام هذه الحالة الغريبة !

نقع في الفخ بعض الأحيان عندما يكون المريضُ متحدثًا طليقًا بالانجليزية .. 
فيقاطعنا في منتصف النقاش الذي سيبدو لغير الناطقين بالانجليزية نقاشًا علميًا جادًا و مهمًا ..
يقاطعنا فيقول : " إذا مو فاهمين نادوا الدكتور " !

هذه النوعية من المرضى نشعر بالحرج منها أيضًا عندما يشرح لنا الدكتور أمامهم ..
يفهمون أن الدكتور الآن غاضبٌ منا .. و أننا رغم كل الثقة التي كنا نفحصهم بها قبل قليل .. خائفون .. مترددون و محرجون !

و رغم أنهم يضعونا في موضع الحرج أحيانًا إلا أن بعضهم يحاول ( استفراد عضلاته ) علينا وقت الفحص بطريقة استفزازية .. فنضطر للرد عليه بمصطلحاتٍ طبية لا يمكن أن يفهمها .. 
أحدهم كان يخبرني بالانجليزية أنه مهتم بالمواضيع الطبية أكثر منا .. و أنه يريد معرفة مرضه ..
فأخبرته أنه دخل المستشفى بـ ( DVT ) .. ثم أردفت و على وجهي ابتسامةً خبيثةً تدل على انتصار ساحق : عرفت شلون ؟!



[ هونها و تهون ! ]

كنت و صديقي متلازمين في المستشفى ..
ندخل على المريض معًا .. نخرج معًا .. نطمئنه معًا .. و نحتار معًا !

بحثنا في ذلك اليوم في كل غرف المستشفى عن مريضٍ يرحب بنا .. إلا أن جهودنا باءت بالفشل ..
قررنا أخيرًا أن ندخل إلى غرفة مليئة بكبار السن .. فنظل ( نكّح ) بشدة حتى يستيقظ أحدهم فنطلب فحصه .. و هذا مافعلناه !

جلس أحد كبار السن من نومه .. و رحب بنا ترحيبًا شديدًا عندما طلبنا منه أن ( ندردش ) معه ثم نفحصه ..

بدأنا في أخذ التاريخ المرضي منه _ كالعادة _ مبتدئين بمعلوماته الشخصية ..
و ما إن سألناه عن عدد أبنائه .. حتى دخل في نوبة بكاء شديدة احترنا في سببها .. و في كيفية إيقافها !
طلبنا منه أن يرتاح قليلًا .. و أخبرناه أننا سنعود بعد قليل لإكمال فحصه ..

وما إن شاهدنا نعود إليه من جديد .. حتى دخل في نوبة بكاء جديدة .. لنتركه بعدها و تبقى معنا علامة استفهام كبيرة جدًا حول سبب بكائه .. 
و لتبقى معنا صورةٌ مؤلمةٌ جدًا عن بكاء الأب من أبنائه !


[ وش تبي ؟! ]

عادةً مايكون مرضى تكسر الدم خبراء مستشفيات لكثرة تنويمهم بها ..
يعرفون أغلب الممرضين و الممرضات .. يفهمون معنى الكثير من المصطلحات الطبية المتعلقة بمرضهم ..
يعرفون أسماء و جرعات الأدوية التي توصف لهم ..
لكنني لم أتخيل أنهم سيكونون خبراء في نوعية الحالات المنومة .. و غرفها !

دخلتُ إلى المستشفى في أحد الأيام و أنا عازمٌ على مقابلة مريضِ تكسّر ..
و على الرغم من كثرة مرضى النكسر بمستشفيات الأحساء إلا أن مقابلة أحدهم و فحصه صعبةٌ جدًا ..
لأنهم دائمًا مايعانون من نوبات آلامٍ حادة .. تمنعهم من الحديث معنا لوقت طويل .. و تمنعهم من التعاون معنا لتأدية فحصٍ جسديٍ كامل !

دخلت على أحد مرضى التكسر .. و فهمتُ منه أنه ينام في المستشفى للعام العاشر على التوالي !
كانت بنيته الجسدية هزيلةً جدًا ..
وجههُ شاحبٌ لدرجة لايمكن وصفها .. عينانِ جاحظتان .. و شفتان يابستان كالخشب !

رفض فحصي له منذ أن لمحني ..
فقد عرف أني طالب طب .. و أن أسألتي كثيرة .. و فحوصاتي أكثر ..
لكنه قال لي بلهجة الخبراء : " تبي حالة سكلر ؟ " *
تعجبتُ من سؤاله .. فحركتُ رأسي أفقيًا للدلالة على الإيجاب ..

أخبرني أن الغرفة 505 بها 3 حالات سكلر .. و حالة التهاب رئوي ..
و أن الغرفة 563 بها حالة سكلر و حالة ربو و ...

و بدأ يدلني على الغرف بحرفية " ثالث غرفة على اليمين ، أول غرفة بعد المستودع ، ثاني غرفة بعد المصعد " !

كان يحفظُ غرف المستشفى بمرضاها و أسرتها و أرقامها !
كان يعرف أغلب الممرضين و الأطباء بالأسم .. يعرف عمّال النظافة و مسؤلات التغذية !

بعد أن خرجتُ من غرفته .. مسحتُ دمعةً فرّت من عيني ..
و دعوتُ له دعوة صادقة بالشفاء العاجل .. 
و أردفتُ : " ماذنبه ليتحمل خطأ والديه ؟! "

ألقاكم ..،

--------------
* سكلر : مصطلح متداول بين الأطباء للدلالة على مريض تكسر الدم .

هناك 8 تعليقات:

  1. مؤلمــه!
    كم هوَ مؤلم ان ترى ...... كل شيء هناآك !!

    ،،

    تعتذر حروفي عن التعليق أكثر!
    متآبعه بصـمت إلى آجل غير مســـمى ،،

    شكــــرًا لك دكتــور عبدالله ،


    ZabArJaD~

    ردحذف
  2. أكثر ما ارتسم على وجهي ملامح تدعو الله ان يشفيهم ويعافيهم .. ولايبلانا =) ..
    ربي يسعدك كالعاده عشت الجو تماما ..

    متحمسة لهمسات قلمك القادمة ,,

    ردحذف
  3. اللهم صلّ علىآ محمدٍ وآل محمد وعجل فرجهم وأهلك أعدآئهم يآ كريم
    أخر قصة مؤلمة =(
    مدري يمكن تأثرت لأني حتىآ أنا سكلر
    ولكن الحمدُلله ،، مو مزمن مثل هالحآلات هذهِ
    ربي يشآفيهم و يعآفيهم يآ رب
    كنتُ هنآ
    Dŕ.ҒàŕOǾOǿo7A

    ردحذف
  4. جميلة هي الأحداث
    لكن روايتك لها ليست كسابق العهد

    ننتظر منك الأفضل ;)

    ردحذف
  5. الله ذكرتني يادكتور بأيام المستشفى وأكثر شي أثر فيني سالفة اللي يبكي من عياله ,, انا بعد شفت واحد كبير بالسن كسر خاطري وقال لنا قصته مع خواته وأهله وانهم مايسألون عنه :( فعلاً شي محزن
    الله لايقسي قلوبنا على أحد من أهلنا أو غيرهم

    متابعين لك ,,ونطمع بالمزيد :)

    Dr.Sukainah

    ردحذف
  6. آصعب آللحظآت آللتي تمر علينآ هي تلك آللتي نرى فيهـآ دموع آلمرضى آو مرآفقيهم ومـآ بآليد حيلة سوى تصبيرهم !

    ردحذف
  7. سالفة المرضى اللي يفهمون انجليزي , ذكرتني واحد كان مدرس انجليزي واحنا ما ندري ومسوين فيها نتفلسف وانحرجنا لمن بدأ يتكلم مع الدكتور ,, احنا نخربط الماضي بالحاضر قدامه ,, والله احراج لا ينسى !!

    آخر قصة فعلآ مؤلمه ,, و الله يشافيه يارب ..

    بس ملحوظة على جملة >>> فحركتُ رأسي أفقيًا للدلالة على الإيجاب >>> أفقيآ !! مو المفروض تكون عموديآ !!؟ ^__^

    شكرآ للدعوة ,, أمتعتنا
    Optimistic girl

    ردحذف
  8. رائع هو ماسطَّرته هنا

    أعجبتني صفاتك وحياتك الطبية المليئة بالإثارة
    يعجبني تشجيعك لمن هم في بداية مشوارهم
    إبتسامتك اللتي لا تفارق يومك

    وآخيراً
    إنسانيتك


    إستمر في السرد ... وسأكون متابعاً جديداً لمدوناتك

    ردحذف

إضافة تعليق ...